فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَبَاءُو بِغَضَبٍ مّنَ الله}:

قال الفخر:
قد ذكرنا أن معناه: أنهم مكثوا، ولبثوا وداموا في غضب الله، وأصل ذلك مأخوذ من البوء وهو المكان، ومنه: تبوأ فلان منزل كذا وبوأته إياه، والمعنى أنهم مكثوا في غضب من الله وحلوا فيه، وسواء قولك: حل بهم الغضب وحلوا به. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة}:

قال الفخر:
الأكثرون حملوا المسكنة على الجزية وهو قول الحسن قال وذلك لأنه تعالى أخرج المسكنة عن الاستثناء وذلك يدل على أنها باقية عليهم غير زائلة عنهم، والباقي عليهم ليس إلا الجزية، وقال آخرون: المراد بالمسكنة أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان غنيًا موسرًا، وقال بعضهم: هذا إخبار من الله سبحانه بأنه جعل اليهود أرزاقًا للمسلمين فيصيرون مساكين. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {ذلك بأنهمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ}:

.قال الفخر:

المعنى: أنه تعالى ألصق باليهود ثلاثة أنواع من المكروهات:
أولها: جعل الذلة لازمة لهم.
وثانيًا: جعل غضب الله لازمًا لهم.
وثالثها: جعل المسكنة لازمة لهم، ثم بيّن في هذه الآية أن العلة لإلصاق هذه الأشياء المكروهة بهم هي: أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق، وهنا سؤالات:
السؤال الأول: هذه الذلة والمسكنة إنما التصقت باليهود بعد ظهور دولة الإسلام، والذين قتلوا الأنبياء بغير حق هم الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم بأدوار وأعصار، فعلى هذا الموضع الذي حصلت فيه العلة وهو قتل الأنبياء لم يحصل فيه المعلول الذي هو الذلة والمسكنة، والموضع الذي حصل فيه هذا المعلول لم تحصل فيه العلة، فكان الإشكال لازمًا.
والجواب عنه: أن هؤلاء المتأخرين وإن كان لم يصدر عنهم قتل الأنبياء عليهم السلام لكنهم كانوا راضين بذلك، فإن أسلافهم هم الذين قتلوا الأنبياء وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم، فنسب ذلك الفعل إليهم من حيث كان ذلك الفعل القبيح فعلًا لآبائهم وأسلافهم مع أنهم كانوا مصوبين لأسلافهم في تلك الأفعال.
السؤال الثاني: لم كرر قوله: {ذلك بِمَا عَصَواْ} وما الحكمة فيه ولا يجوز أن يقال التكرير للتأكيد، لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقوى من المؤكد، والعصيان أقل حالًا من الكفر فلم يجز تأكيد الكفر بالعصيان؟.
والجواب من وجهين:
الأول: أن علة الذلة والغضب والمسكنة هي الكفر وقتل الأنبياء، وعلة الكفر وقتل الأنبياء هي المعصية، وذلك لأنهم لما توغلوا في المعاصي والذنوب فكانت ظلمات المعاصي تتزايد حالًا فحالًا، ونور الإيمان يضعف حالًا فحالًا، ولم يزل كذلك إلى أن بطل نور الإيمان وحصلت ظلمة الكفر، وإليه الإشارة بقوله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] فقوله: {ذلك بِمَا عَصَواْ} إشارة إلى علة العلة ولهذا المعنى قال أرباب المعاملات، من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن، ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة، ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر.
الثاني: يحتمل أن يريد بقوله: {ذلك بأنهمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ} من تقدم منهم، ويريد بقوله: {ذلك بِمَا عَصَواْ} من حضر منهم في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا لا يلزم التكرار، فكأنه تعالى بيّن علة عقوبة من تقدم، ثم بيّن أن من تأخر لما تبع من تقدم كأن لاجل معصيته وعداوته مستوجبًا لمثل عقوبتهم حتى يظهر للخلق أن ما أنزله الله بالفريقين من البلاء والمحنة ليس إلا من باب العدل والحكمة. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {ذلك بما عصوا} حمله المفسرون على أن الإشارة بذلك إلى الشيء الذي أشير إليه بذلك الأول، قاله الطبري والزجّاج وغيرهما. والذي أقول: إن الإشارة بـ {ذلك} الأخير إنما هي إلى كفرهم وقتلهم، وذلك أن الله تعالى، استدرجهم فعاقبهم على العصيان والاعتداء بالمصير إلى الكفر وقتل الأنبياء، وهو الذي يقول أهل العلم: إن الله تعالى يعاقب على المعصية بالإيقاع في معصية، ويجازي على الطاعة بالتوفيق إلى الطاعة، وذلك موجود في الناس إذا تؤمل، وعصيان بني إسرائيل واعتداؤهم في السبت وغيره متقرر في غير ما موضع من كتاب الله، وقال قتادة رحمه الله عندما فسر هذه الآية: اجتنبوا المعصية والعدوان فإن بها أهلك من كان قبلكم من الناس. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

علَمُ الهجرأن لا ينكتم، وسِمَةُ البُعْد لا تَخْفَى، ودليل القطيعة لا يستتر؛ فهم في صغار الطرد، وذُلِّ الرد، يعتبر بهم أولو الأبصار، ويغترُّ بهم أضرابُهم من الكفار الفُجَّار. اهـ.

.من فوائد الألوسي:

قال رحمه الله:
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} أي ذلة هدر النفس والمال والأهل، وقيل: ذلة التمسك بالباطل وإعطاء الجزية، قال الحسن: أذلهم الله تعالى فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين وهذا من ضرب الخيام والقباب كما قاله أبو مسلم، قيل: ففيه استعارة مكنية تخييلية، وقد يشبه إحاطة الذلة واشتمالها عليهم بذلك على وجه الاستعارة التبعية، وقيل: هو من قولهم: ضرب فلان الضريبة على عبده أي ألزمها إياه فالمعنى ألزموا الذلة وثبتت فيهم فلا خلاص لهم منها {أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ} أي وجدوا، وقيل: أخذوا وظفر بهم، و{أَيْنَمَا} شرط، وما زائدة وثقفوا في موضع جزم وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أو هو بنفسه على رأي {إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله وَحَبْلٍ مّنَ الناس} استثناء مفرغ من أعم الأحوال، والمعنى على النفي أي لا يسلمون من الذلة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكونوا معتصمين بذمة الله تعالى أو كتابه الذي أتاهم وذمة المسلمين فإنهم بذلك يسلمون من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال الأموال. وقيل: أي إلا في حال أن يكونوا متلبسين بالإسلام واتباع سبيل المؤمنين فإنهم حينئذٍ يرتفع عنهم ذل التمسك والإعطاء {وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله} أي رجعوا به وهو كناية عن استحقاقهم له واستيجابهم إياه من قولهم باء فلان بفلان إذا صار حقيقًا أن يقتل به، فالمراد صاروا أحقاء بغضبه سبحانه والتنوين للتفخيم والوصف مؤكد لذلك {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة} فهم في الغالب مساكين وقلما يوجد يهودي يظهر الغنى.
{ذلك} أي المذكور من المذكورات {بأنهمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله} الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم {وَيَقْتُلُونَ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ} أصلًا، ونسبة القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم على نحو ما مر غير مرة {ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء عليهم السلام على ما يقتضيه القرب فلا تكرار، وقيل: معناه أن ضرب الذلة وما يليه كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو معلل بعصيانهم واعتدائهم، والتعبير بصيغة الماضي والمضارع لما مر. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور:

قال رحمه الله:
{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة}.
يعود ضمير {عليهم} إلى {وأكثرهم الفاسقون} [آل عمران: 110] وهو خاص باليهود لا محالة، وهو كالبيان لقوله: {ثم لا ينصرون}.
والجملة بيَانيّة لذكر حال شديد من شقائهم في الدنيا.
ومعنى ضرب الذلّة اتَّصالها بهم وإحاطتها، ففيه استعارة مكنية وتبعية شبّهت الذلّة، وهي أمر معقول، بقية أو خيمة شملتهم وشبّه اتّصالها وثباتها بضرب القبة وشَدّ أطنابها، وقد تقدّم نظيره في البقرة.
و{ثُقفُوا} في الأصل أخذوا في الحرب {فإمّا تثقفنّهم في الحرب} [الأنفال: 57] وهذه المادة تدلّ على تمكّن من أخذ الشيء، وتصرّف فيه بشدّة، ومنها سمي الأسْر ثِقافًا، والثقاف آلة كالكلُّوب تكسر به أنابيب قنا الرّماح.
قال النابغة:
عَضّ الثِّقَافِ على صُمّ الأنَابِيب

والمعنى هنا: أينما عثر عليهم، أو أينما وجدوا، أي هم لا يوجدون إلا محكومين، شبّه حال ملاقاتهم في غير الحرب بحال أخذ الأسير لشدّة ذلّهم.
وقوله: {إلا بحبل من الله وحبل من الناس} الحبل مستعار للعهد، وتقدّم ما يتعلق بذلك عند قوله تعالى: {فقد استمسك بالعروة الوثقى} في سورة البقرة (256) وعهد الله ذمّته، وعهد النَّاس حلفهم، ونصرهم، والاستثناء من عموم الأحوال وهي أحوال دلّت عليها الباء التي للمصاحبة.
والتَّقدير: ضربت عليهم الذلّة متلبِّسين بكُلّ حال إلاّ متلبّسين بعهد من الله وعهد من النَّاس، فالتَّقدير: فذهبوا بذلّة إلاّ بحبل من الله.
والمعنى لا يسلمون من الذلّة إلاّ إذا تلبَّسُوا بعهد من الله، أي ذمّة الإسلام، أو إذا استنصروا بقبائل أولى بأس شديد، وأمّا هم في أنفسهم فلا نصر لهم.
وهذا من دلائل النُّبوّة فإنّ اليهود كانوا أعزّة بيثربَ وخيبر والنضير وقريظة، فأصبحوا أذلّة، وعمَّتهم المذلّة في سائر أقطار الدنيا.
{وباءوا بغضب من الله} أي رجعوا وهو مجاز لمعنى صاروا إذ لا رجوع هنَا.
والمسكنة الفقر الشَّديد مشتقة من اسم المسكين وهو الفقير، ولعلّ اشتقاقه من السكون وهو سكون خيالي أطلق على قلّة الحيلة في العيش.
والمراد بضرب المسكنة عليهم تقديرها لهم وهذا إخبار بمغيّب لأن اليهود المخبر عنهم قد أصابهم الفقر حين أخذت منازلهم في خيبر والنَّضِير وقينُقاع وقُريظةَ، ثُمّ بإجلائهم بعد ذلك في زمن عمر.
{ذلك بأنهمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله وَيَقْتُلُونَ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}.
الإشارة إلى ضرب الذلّة المأخوذ من {ضربت عليهم الذلّة}.
ومعنى {يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء} تقدّم عند قوله تعالى: {إنّ الذين يكفرون بآيات الله} [آل عمران: 21] أوائل هذه السورة.
وقوله: {ذلك بما عَصوا وكانوا يعتدون} يحتمل أن يكون إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حقّ، فالباء سبب السبب، ويحتمل أن يكون إشارة ثانية إلى ضرب الذلّة والمسكنة فيكون سببًا ثانيًا.
(وما) مصدرية أي بسبب عصيانهم واعتدائهم، وهذا نشر على ترتيب اللفّ فكفرهم بالآيات سببه العصيان، وقتلهم الأنبياء سببه الاعتداء. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.
بَعْدَ مَا أَمَرَ اللهُ تعالى بِالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ وَذَكَّرَ بِنِعْمَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَأُخُوَّةِ الإسلام، وَبَعْدَ مَا نَهَى عَنِ التَّفَرُّقِ فِي الْأَهْوَاءِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ، وَتَوَعَّدُ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ- بَيَّنَ فَضْلَ الْمُعْتَصِمِينَ بِحَبْلِهِ، الْمُتَآخِينَ فِي دِينِهِ، الْمُتَحَابِّينَ فِيهِ، وَوَصَفَهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ الشَّرِيفِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ خَيْرِيَّةَ الْأُمَّةِ وَفَضْلَهَا عَلَى غَيْرِهَا تَكُونُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ: الأمر بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْإِيمَانُ بِاللهِ تعالى.
فِي قوله تعالى: {كُنْتُمْ} ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّهَا تَامَّةٌ فَالْمَعْنَى وُجِدْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ فِي الْوُجُودِ الْآنَ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ غَلَبَ عَلَيْهَا الْفَسَادُ فَلَا يُعْرَفُ فِيهَا الْمَعْرُوفُ وَلَا يُنْكَرُ فِيهَا الْمُنْكَرُ، وَلَيْسَتْ عَلَى الإيمان الصَّحِيحِ الَّذِي يَزَعُ أَهْلَهُ عَنِ الشَّرِّ وَيَصْرِفُهُمْ إِلَى الْخَيْرِ وَأَنْتُمْ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ إِيمَانًا صَحِيحًا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْعَمَلِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهَا نَاقِصَةٌ وَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ كُنْتُمْ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ كَمَا فِي كُتُبِهَا الْمُبَشِّرَةِ بِكُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ إِلَخْ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُقَالُ لِمَنِ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ، وَالْمَعْنَى: كُنْتُمْ فِيمَا سَبَقَ مِنْ أَيَّامِ حَيَاتِكُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ شَأْنُكُمْ كَذَا وَكَذَا؛ وَبِذَلِكَ كَانَ لَكُمْ هَذَا الْجَزَاءُ الْحَسَنُ، فَالْكَلَامُ عِنْدَهُ تَتِمَّةٌ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ فَكَمَا ذَكَرَ فِيهَا مَا يُقَالُ لِمَنِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ذَكَرَ أيضا مَا يُقَالُ لِمَنِ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ، وَقِيلَ عَلَى هَذَا- أَيْ كَوْنِهَا نَاقِصَةً- غَيْرُ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ كَانَ هُنَا بِمَعْنَى صَارَ أَيْ صِرْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ.
إِذَا فُسِّرَتْ كَلِمَةُ كُنْتُمْ بِغَيْرِ مَا قَالَهُ أَبُو مُسْلِمٍ كَانَتِ الْجُمْلَةُ شَهَادَةً مِنَ اللهِ تعالى لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ إِلَى زَمَنِ نُزُولِهَا بأنها خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ بِتِلْكَ الْمَزَايَا الثَّلَاثِ، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ فِيهَا كَانَ لَهُ حُكْمُهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْخَيْرِيَّةَ لَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الإسلام وَاتِّبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَّا الدَّعْوَى وَجَعْلِ الدِّينِ جِنْسِيَّةً لَهُمْ، بَلْ لَا يَسْتَحِقُّهَا مَنْ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ وَحَجَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَالْتَزَمَ الْحَلَالَ وَاجْتَنَبَ الْحَرَامَ مَعَ الْإِخْلَاصِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الإسلام إِلَّا بَعْدَ الْقِيَامِ بِالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ مَعَ اتِّقَاءِ التَّفَرُّقِ وَالْخِلَافِ فِي الدِّينِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مَعْنَاهُ: هَذَا الْوَصْفُ يَصْدُقُ عَلَى الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ أَوَّلًا، وَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ- عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ-، فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فَكَانُوا بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، وَهُمُ الَّذِينَ اعْتَصَمُوا بِحَبْلِ اللهِ وَلَمْ يَتَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ فَيَذْهَبُوا فِيهِ مَذَاهِبَ تَتَعَصَّبُ لِكُلِّ مَذْهَبٍ شِيعَةٌ مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَخَافُ فِي ذَلِكَ ضَعِيفٌ قَوِيًّا، وَلَا يَهَابُ صَغِيرٌ كَبِيرًا، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ ذَلِكَ الإيمان الَّذِي اسْتَوْلَى عَلَى عُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ، وَمَلَكَ أَزِمَّةَ أَهْوَائِهِمْ حَتَّى كَانَ هُوَ الْمُسِيِّرَ لَهُمْ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ- ذَلِكَ الإيمان الَّذِي بَيَّنَ سبحانه خَوَاصَّهُ وَصِفَاتَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَظَهَرَتْ فَوَائِدُهُ وَآثَارُهُ فِي تَغْيِيرِ هَيْئَةِ الْأَرْضِ عَلَى أَيْدِيهِمْ- ذَلِكَ الإيمان الَّذِي قال تعالى فِي أَهْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [49: 15] وَقَالَ فِيهِمْ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [8: 2] إِلَى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [8: 4] وَقَالَ فِيهِمْ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [23: 1، 2] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ الَّتِي تَحَقَّقَ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى أمثالهَا فِي أُولَئِكَ الْأَصْحَابِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
أَقُولُ: هَذَا مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْجُمْلَةِ إِلَّا أَنَّ كَلِمَةَ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ هِيَ مِنْ لَفْظِهِ يُرِيدُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَالِيَةَ وَالْمَزَايَا الْكَامِلَةَ لِذَلِكَ الإيمان الْكَامِلِ لَمْ تَكُنْ لِكُلِّ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ اسْمَ الصَّحَابِيِّ كَالْأَعْرَابِيِّ الَّذِي يُسْلِمُ وَيَرَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [48: 29] فَهُمُ الَّذِينَ تَصْدُقَ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الصِّفَاتُ الْجَلِيلَةُ، وَأَفْضَلُهَا وَأَعْلَاهَا الْجِهَادُ وَالْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهَا وَالْإِيوَاءُ وَالنَّصْرُ مِنْ أَهْلِهَا؛ لِذَلِكَ قال تعالى فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [8: 74، 75] وَلَمْ يُهَاجِرْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُنَافِقٌ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ فِي زَمَنِ الضَّعْفِ وَإِنَّمَا يَكُونُ النِّفَاقُ فِي زَمَنِ الْقُوَّةِ، وَمُنَافِقُو الْمَدِينَةِ لَمْ يَنْصُرُوهُ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا كَانُوا يُخَذِّلُونَ وَيُثَبِّطُونَ الصَّادِقِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيُغْرُونَ الْأَعْدَاءَ بِهِمْ، قال تعالى فِيهِمْ: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [9: 47، 48].